المقال الرابع من شرح كتاب: سيرة
الأبدال، بقلم سلطان القلم ابن مريم عليه السلام
مقال 4
بسم الله الرحمن الرحيم
مستمرون
في قراءة سيرة الأبدال، عن علامات رجال الله تعالى، في كتاب كتبه المسيح ابن مريم المحمدي، بأسلوب
عربي صعب المرتقى، تخبرك كل فقرة منه أنك مع ابن مريم، الذي علمه الله ونعم ماعلم، ليكبت المنكرين، لأنه يكتب كلمات بهذه الصعوبة وبهذه المعاني ولم يطرق باب بلاد العرب، ولم يطأ معاهدهم :
ومن علاماتهم
أنّك تجدهم كرجل رزين، وعمود رصين، وتاجرٍ هو بدء زَحنته وقَيل المعاصرين.
لوحة مرسوم فيها إنسان، وملامحه
هي: أنف رزين
وشفتي فم رصين ووجه هو بدء زحنته، وله جبهة عريضة هي: قيل المعاصرين.
والقيل خليفة ونائب، والمعاصرة تابعة للوقت،
فتجد أحدهم خليفة الوقت أي قيل المعاصرين.
إن لوحة الرزانة والرصانة
والتقدم هذه ليس لوحة لوجه بل لقلب، فمن روائع جمال القلب نبعت هذه النافورة من
الحسن.
المتقون مستقرون عقليا ونفسيا
لهم رسوخ وأناة وجلال كالجبال، ترتيبهم في الخيرات يبلغ درجة الامتياز، ولذلك
ينصبهم الله تعالى متكلمين باسمه. والزحنة هي القافلة
بثَـقَلها وتُبّاعها وحشمها، وهم أهل الدين في ذلك
الزمان، والتقي الرئيس بينهم كتاجر ترتيبه في القافلة الأول، فهو في تجارة الإيمان
أول المؤمنين، والقيْل هو المنصب التالي للملك الأعلى، فهو خليفة الله في الورى.
ويزجّون عيشتهم في حَذَلٍ وأنين، ويبيتون لربهم
قائمين وساجدين، ويجتنبون حِطْل الشهوات ويعبدون ربهم حتى يأتيهم يقين.
لوحة جمال تعبر عن تاريخ حياة
من الحزن بسبب حاجز المادة هذا، فهم يحبون لقاء الله شوقا إلى الله.. يقيمون الليل ويقرأون القرآن، كلام
الله، باكين، متتبعين صفاته وعظمته معتذرين عن الناس مستغفرين، والحذل حمرة في العين ودمع سائل .
والمتقون الأولياء يتضرعون بإلحاح أن ينصر الله دينه ويتوجعون لأوجاع الإسلام،
ويئنون بصوت وبغير صوت تضرعا لإنقاذه، ويشتاقون لربهم ويصلون ليلا ويبكون لذكر
أسائه الحسان وعند دعائه، ويخافونه.
والحطل الذئب: الإنسان ذئب الإنسان سواء من
داخله أو من مواطنه أو من مجاوريه من الدول أو من البعيدين عنه. والطاغوت غول
النفس يأتي أولا من داخل، وما من فساد في أمة أو بين الأمم إلا والسبب الطمع في
المال أوالنساء أو الجاه أو التحكم والافتراس. والأمة المفلحة تلجم الشهوات،
والأمم التي لديها قانون محترم يلجم رغبة الانفلات تتقدم بقدر ماألجمت شهواتها.
وعباد الله يتجنبون ذئب
الشهوات ويعبدون ربهم عبادة حقيقية حتى يأتيهم نصر من الله. إنهم مواطنوا العالم
الصالحون ولذلك فهم مواطنوا الجنة.
وإنّ التُّحُوتَ إذا سبُّوا وأضبُّوا كالكلاب،
وجعلوهم كأرض تحت الضباب، وجدتَهم صابرين.
مشهد فني بديع لعاصفة النقد
وقد صار شتائم وسخائم، وتحول السباب ضبابا. لوحة فنية عجيبة لأرض تحت ضباب السب والصراخ
والتهديد، وهاهي قلوب كالكواكب السيارة لايخرجها عن مسارها سباب ولاضباب. بسبب
ماوقر فيها من كمال رب الأرباب.
سبوا وأضبوا : شتموا وصرخوا أوصاحوا، والتحوت الأراذل
وسفلة الناس يثيرون عليهم زوابع السب وضجيج الكذب والاتهامات مثل كلاب تثير ضجة
مشتركة، وتخيم تلك الضجة لتصنع ضبابا من الخوف، أو مناخا محيطا بعباد الله
المتقين، كضباب مخيم يرخي سدوله يملأ الفضاء الاجتماعي
حتى لايبدو أمامهم مسلك للسير، ويبدو
وكأنهم محاصرون، والهدف ردهم عن تقواهم، ولكنهم في عزة مع ربهم تجدهم مطمئنين
واثقين من النصر صابرين ثابتين لايتزعزعون.
ومن علاماتهم أنّهم
يُبعَثون في عصرٍ ادْجَوْجَنَ.
يفعل الله مايليق به فعله وما
يليق به فقد جرت به سنته وسنته أن الربيع اتي بعد بلوغ الشتاء مداه، وشتاء الشجر
هو كليل الضلال تماما، وعلامتهم أن ترى العصر قد ادجوجن = صار ظلاما تماما.
ووقتٍ قَلَّ ثماره وشابه الحطب الْمُدْرِن.
وقت صار الشجر مجردا من
الفائدة، وقت يشبه الحطب فهذا يشعرك بتأهله للهب، بل الحطب
المدرن أي الحطب المتوسخ فهذا يشعرك بالحاجة إلى
كيماويات الغسيل الكاوية. عندما تنظر
للشجر خاليا من حمل الثمر فاذكر الله ذا الحول والقوة.. الظلام والدجنة يشعرك بزحف
النهار القريب وفرج الله الودود، البرد الروحاني وهو برودة الإيمان لايعطي الملكات
الخلقية والروحية فرصة لتعطي ثمارها التي هي كامنة فيها ومودعة في أعماقها. ولكن
الله هو رب الدفء. لذلك فعليك بعدم التركيز فقط على الأرض بل ارفع عينيك إلى
السماء.
وفي زمان أخذت الناسَ نعسةٌ أُرْدُنٌّ.
هنا جملة مستأنفة متصلة بما
بعدها: والسياق أنه في الوقت الذي يحدث فيه مايلي فلهم هم شأن مختلف.
ونعسة أردن هو نعاس من
العيار الثقيل الذي يشبه الموت.
وبقى إيمانهم كإهانٍ ما بقى له غُصْنٌ.
جف الإيمان وغاض من ماء الحيوية.
والإهان عرجون الثمرة والعرجون هو
عذق قد يبس وانحنى.
وفي بُرهة أَحْثَلَتْ صبيانها، وما كفلت
جوعانها.
البرهة مدة طويلة من الزمان
على عكس الشائع، وأحثلت أساءت التغذية.
فهو زمان يسيء تغذية
الصبية روحيا وعقليا، فتطعمهم بئس الطعام، ولاتتكفل
بجوعان. فعند ذلك تظهر آثار رحمة الله فينشر الغيث من بعد ماقنطوا وينشر رحمته وهو
الولي الحميد. وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين.
وفي
حِينٍ ما طَلَ الناسَ الضَّلالُ، وقضِمت جواميسُ النفوسِ ما نَعَمَتْ من الأعمال.
من أين لهندي لم يدرس أعماق
العربية أن يقول ناصبا المفعول المقدم رافعا الفاعل المؤخر: ماطل الناس
الضلال؟ كلما قرص الجوع الناس يقول
الضلال: الطعام على النار. ومماطلة الضلال طبيعية فهو يعد بما لايملك، وليس في
الإناء سوى الماء والحصى.
وأما كلمات : قضمت بكسر ونعمت بفتح فأفعال عميقة والعجيب أن يختار فعل نعم
بالفتح وهو من العربية لكنهم يستخدمون بدلا منه نعم بالكسر. هنا صورة فنية فريدة ترينا الغيب، وتكشف لنا العالم الروحي، ونلبس
نظارة نرى بها حقائق حالة النفوس الأمارة في شكل جواميس النفوس. جواميس الغابة البدائية. لاتعرف تهذيبا، قضمت مانعمت من الأعمال
أي أكلت ما رغبت. والمعنى فعلت مااشتهت. وكل ماتطلبه غريزتها وتأمر
به تلبيه. فهي تطيع رغباتها وتدللها وترفه عن نفسها وتسمن في غابتها الطليقة بلا
تحكم ذاتي لاتتوقف عند إذن ربها ولاتعترف برب هو يطعمها.
إنها جوميس تفعل ما وافق
مزاجها: (تأكل ما يحلو لها مما يحل ومما لا يحل، وتنطح وتدهس كل من تحرش بها
وأغضبها، وتجبن عندما يدهمها خطر وتفر مرعوبة).
والجمل السابقة
مترابطة تحتاج تكملة لأنه يريد أن يقول :
في وقت كالذي وصفناه صبغة ونهجا ومناخا، في زمن كما حررنا: قد اسودّ ظلاما
وامتلأ جوه بضعف إيمان وسوء غذاء عقلي قلبي وضلال ممتد مماطل وبالتالي نفوس تتبع
الأمارة وتهجم بلاتحكم وتهرب في شكل مشين،
فإنهم متحررون من تأثيراته فيقول:
ثم هم لا يكونون دخِن الخلق
كالأَرْذَال، يل يكظمون الغيظ ويعفون عمَّن آذى من الجُهَّال.
أي ثم هم مع كل ماوصفنا
لايقلدون ولايتنفسون هذا الهواء لأنهم يوحدون النفس على تسبيح الخلاق. والتشكيل
صعب في دخن بكسر الخاء، والخلق الأخلاق بضم الخاء واللام.. دخن الخلق أي فاسد
الخلق خبيثه. ففي هذا الجو اللاإنساني ترى المتقين أولياء الله في حلل الإنسانية
يتحكمون في أنفسهم بحكم أحكم الحاكمين، ويأمرونها أن تكظم فتكظم. وأن تعفو فتعفو،
ولاتقضم نفوسهم ماتنعم الأمارة من الانتقام والافتراس.
ومع ذلك هم قومٌ شَجِعَةٌ لا يُرْغِـنُونَ إلى
سِلْمٍ لظُلمٍ عَتَى، ولو كانوا كباهِلٍ في موطن الوغى.
الباهل. كلمة صعبة، وهو
الأعزل. علمنا أنهم قوم يتحكمون في أنفسهم .. هذا التحكم لايعني جبنا بل هم شجعة = الشجعان حقا، فإذا وقفوا في موقف الوغى فلاجبن
ولاتراجع عن الحق، ولا يرغنون إلى سلم لا يميلون للخضوع وللركون لطاغوت تعدى حدوده، فيقفون في الميدان يواجهون
ولو كانوا عزلا من كل سلاح. وهذا هو معنى كلمة باهل.
ويخافون ربّهم وعلى التقوى يواظبون، وإذا مسّهم
طائف من الشيطان يستغفرون، فتُهزم الأهواءُ التي جاءت كأوشابٍ يهجمون، وتنْزل
السكينة ويفرّ الشيطان الملعون.
أوشاب.. عجبا له يذهب للألفاظ الصعبة والتي في فهمها مشاكل. جواميس النفوس
في عوالمها البرية وهم حول العرش يسبحون. يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون مايؤمرون..
هم في خوفهم من الله فرسان نبلاء يستغفرون فيغفرلهم، لاتغلبهم جيوش الوساوس، وهي
الأهواء: تأتي وتهاجم كأوشاب، والأوشاب والأوباش سواء وهم الرعاع. إن النبلاء
لاتغلبهم أفواج الرعاع.
كل هذا من الناحية الخلقية.
ولكنهم أيضا من ناحية الذكاء والفراسة والتفوق الروحاني لهم كعب عال، فيقول:
ومن علاماتهم
أنّهم يعرفون الرُّهْدون، والمنافق البُهْصُـل الذي يُضاهي الحِرْذُون.
يستنيرون بنور الله تعالى
فيعرفون الرهدون وهو الكذاب والمنافق المفحش في سبابه ويشبه سام أبرص في خلقه وإن
كان على شكل إنسان في خلقه.
وتجدهم كغَيْذانٍ في كل ما يزكَنون.
تجدهم كغيذان = صادقي الظن في كل ما يزكنون = يتفرسون.
وكمثل هصُورٍ بيد أنهم لا يفترسون.
ودعاء متحضرون نعم المواطن الصالح، لكن كماة أبطال.
وتجد قلوبهم أغنياء ثم يتمسكنون.
قلوبهم مليئة بالغنى لكنهم
يتواضعون كأنهم فقراء مساكين محتاجون.
ويُرْقِلون في سُبُل الله ولا
يُرْكَلُون.
يرقلون = يسرعون في سبل الله تعالى ولا يركلون = يخيب الله سعيهم ورجاءهم وينجحون.
وترى دموعهم مُرْمَغِلَّة لا تَرْقَاُ ولا
يميلون إلى أوْنٍ ولا يتَبخترون.
عيونهم مرمغلة = رطبة بالدمع.. لاترقأ= ودمعهم دائم الرطوبة لايجف،
ولايميلون لأون= لايميلون
للدعة ولا للتيه والمشي مختالين يتبخترون.
ومن علاماتهم أنّ القدر يمشي إليهم على
قدم المخاتلة، ويُنبّؤهم الله بقدره إذا قُدّرَ عليهم نزول البليّة.
القدر يمشي نحوهم في خجل
متخفيا لايسمعهم خطواته، فلا يزعجهم القدر بنذره ولايقلقهم بضجيج مقدماته، كما هو
حال من يعصون الله تعالى. ولكن الله تعالى من جهته يقوم من أجلهم بعمل خاص بإبلاغهم
بقرب نزول القدر إذا كان نازلا، فلا تحدث
لهم مفاجأة.
ويُخَتْعِل إليهم الموت ولا يأتي كالحوادث المفاجئة، كأن الله يعاف أن يهلكهم
ويتردّد عند قبض نفوسهم المطمئنة.
والله يجعل حركة الموت تختعل نحوهم أي تتباطأ حتى تبدو لهم علامات قربه،
ويستعدون له وتكون خواتيمهم حسنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق